أفرز الربيع العربي أوضاعاً لم يسبق أن واجهتها الدول العربية. من انتهاء حكم مبارك ووضعه في السجن ومقتل العقيد القذافي وخروج لعلي عبد الله صالح على غير ما أراد والآن سوريا تواجه الخطر الأكبر فمن مطلب التحول الديمقراطي، ربما تتجه نحو التقسيم بعد الحرب الأهلية الدامية. لقد أصبح من الشائع الحديث عن التحولات الديمقراطية فى الوطن العربي أو الشرق الأوسط بعد الربيع العربي. لقد أثر سقوط الأنظمة السابقة بشكل كامل على الحياة المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وأدت هذه النتائج إلى بروز عناصر الخلل في الأحزاب والجماعات المعارضة التي لم يحالفها الحظ فى الفوز فى الانتخابات الرئاسية او التشريعية فى كلٍ من مصر وتونس. فالنظام الحالي فى مصر هو نظام يسيطر عليه الإخوان المسلمون بشكل كامل حتى وإن كانت سلطات غير دستورية ولم ينص عليها القانون.
إن الحالة المصرية ليست الأولى التي تتحول من نظام ديكتاتوري او شبه ديكتاتوري إلى نظام شبيه بسابقه. ففي العديد من دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا تحولت تلك الدول من نظم ديكتاتورية إلى نظم أخرى ليست ديمقراطية وربما ديكتاتورية أكثر من سابقاتها. ما تشهده مصر حاليًا من عدم الاستقرار السياسي والتوغل فى المؤسسات الرسمية واستحداث مؤسسات غير رسمية تؤشر إلى أن مصر تتجه نحو "نظام استبدادي منافس". ما هو النظام الاستبدادي المنافس؟ وما صفاته ولماذا مصر تتجه نحو هذا النوع من النظم السياسية؟
إن الرئيس مرسي وبقراراته المتتالية بدءًا من المرسوم الرئاسي بإعطاءه سلطات عليا تفوق القضاء وقرار الضبط القضائى ومخالفة تعيين النائب العام إلى السياسات التي تتعلق بالإعلاميين وآخرها كان استدعاء الصحفي باسم يوسف للتحقيق معه يؤسس بل وأرسى القواعد الأساسية لنظام "استبدادي منافس" كما يسميه عالما السياسة ليفتسكي وهيلمكي. فالنظام الاستبدادي المنافس هو أن تؤسس لمرحلةٍ قادمة بحيث أن الحزب الحاكم الحالي لن يخسر بتاتاً في أى انتخابات قادمة. ففي النظام الاستبدادي المنافس، القواعد والمؤسسات الديمقراطية موجودة، ولكنها ليست قوية وتوجد تعددية في الأحزاب السياسية وتوجد معارضة ومؤسسات مجتمع مدني ولكن هناك انتهاك منظم ومؤسس للحريات وللأحزاب وقدرتها على المناروة السياسية وتشديد القوانين اللتي تسمح للمعارضة والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية بأخذ مساحتها من حرية الرأي. إن هذا النوع من التعديات نراه بشكل شبه يومي فى مصر. ونستطيع القول إن مصر فى طور ولادة نظام استبدادي منافس.
فى مثل هذه النظم تكون المنافسة غير متكافئة والملعب السياسي والقدرات غير متساوية ليس لعدم قدرة الآخر على المنافسة أو عدم وجود مصادر بل لأن الحزب الحاكم وهو الإخوان المسلمون، يعملون على شل الأحزاب والمجتمع المدني والقدرات الإعلامية المنافسة. ليس فقط ذلك بل يتم تسخير المؤسسات الرسمية ضد المعارضة بشكل كبير وهو ما يحدث تماماً فى مصر. ففي الحالة المصرية هناك ركنان أساسيان يتم التركيز عليهما ضد المعارضين، الأول المال والثاني الإعلام. فعندما تسيطر المؤسسات الرسمية على أضخم القنوات الإعلامية وتكون القنوات الأخرى من المؤيدين للحزب الحاكم سيكون من السهل حشر المعارضين والمجتمع المدني في الزاوية السياسية وحيث أن غالبية المصريين يعتمدون على القنوات التلفزيونية، فإن العملية ستكون أسهل عندما يكتمل إخماد القنوات التلفزيونية التي يسميها الحزب الحاكم ومناصري الإخوان المسلمين بـ"المغرضة". أما العنصر الثاني وهو الأهم فهو الدعم المالي. فقد حاولت الحكومة مكافحة ذلك من خلال محاولة تنشيف الدعم الخارجي للمجتمع المدني فى مصر (جميعنا يعلم أن أغلب مؤسسات المجتمع المدني فى الوطن العربي والعالم الثالث وحتى المتقدمة تأتى من مؤسسات وحكومات دولية وغالبا خارجية). ربما ذلك كان له صدى كبير فى الشارع المصري ولكن لا يمكن التغاقل عن أن ذلك سيقود إلى إنكماش المجتمع المدني فى مصر بشكل رسمي على المدى المنظور ما عدا تلك التى تؤيد وتخفي انتهاكات الحكومة والحزب الحاكم وهو ما دعى الإخوان المسلمون إلى تشكيل جمعيات ومؤسسات موازية للمجتمع المدني تحت نفس الغطاء حتى يتم تسهيل التأثير وتنشيف منابع القلق للنظام الحاكم وللإخوان المسلمين.
هناك ثلاثة عوامل تؤثر على التحول الديمقراطي من ديكتاتوري أو استبدادي إلى نظام ديمقراطي كامل يبدأ من مفهوم العقد الاجتماعي الذى أرساه جون لوك وروسو إلى الفصل بين السلطات والحريات الأساسية. أما العامل الأول وهو الروابط والعلاقات مع الغرب والثاني هو قدرة تلك الدول على التأثير والتدخل فى شؤون الدولة المصرية وأما الثالث- وهو الأهم- القدرة والهيكلية التنظيمية لمؤسسات الدولة. وبالنسبة لمدى قدرة تلك الدول على التأثير والضغط على النظام الحاكم من خلال الحوافز المادية والدعم لمؤسسات الدولة فهو ما لم يتحقق حتى الآن. تنظر الولايات المتحدة وأوروبا ي إلى الإخوان المسلمين كعامل استقرار فى المنطقة وخصوصاً بعد إثبات مرسي للغرب أنه قادر على لجم حركة حماس وإلزامها بالتهدئة وكذلك عامل كون الولايات المتحدة تريد علاقات جيدة مع الإخوان المسلمين بحكم أنهم حكام المنطقة حالياً. أما قدرة تلك الدول على التأثير فهي تكاد تنعدم ولربما هناك تأثير على النظام من الداخل المصري والأحزاب الإسلامية أكثر من الخارج وربما تتمتع قطر بنوع من التأثير على القيادة المصرية أكثر من الغرب. أما العامل الثالث وهو الأخطر على صيرورة الدوله وكيانها المستقل وهو القدرة الهيكلية والتنظيمية والتي افتقدتها الدولة المصرية بشكل كبيرخلال العامين السابقين. الأمن منعدم والاقتصاد يعاني من ركود كبير وقدرة مؤسسات الدولة أصبحت ضعيفة، وإن صح ما يذكر في الإعلام بعملية "أخونة الدولة" والوظائف فذلك سيوثر بشكل سلبي على عملية التحول الديمقراطي بشكل كبير وربما يؤخرها- إن بدأت لسنين طويلة.
إن تجارب الدول السابقة بعد الحرب الباردة تؤكد أن العنف الذي عاشه الأخوان المسلمون فى عهد مبارك وافتقاد العدالة الاجتماعية واستمرار ذلك وبشكل أوسع بعد حقبة مبارك سيؤدي إلى تأسيس وتقوية النظام "الاستبدادي المنافس" في مصر.
إن ما يحدث فى مصر الآن ليس مجرد مناورات سياسية من قبل الحزب الحاكم والإخوان المسلمون بل هي خطوات استراتيجية تؤثر على المعارضة بشكل كبير. وهذا يعني أن كل شيء سيكون في يد الحزب الحاكم . وهذا ضد مبدأ التعددية وإرساء القواعد الديمقراطية في مرحلة ما بعد مبارك. ما بدأ به الاخوان المسلمون ممثلاً بالرئاسة هو تحضير المشهد السياسي المصري لمرحلة عدم خسارة الإخوان في أي انتخابات قادمة سواء أكانت ديمقراطية أو بأي شكل آخر وهو ما يضع علامة استفهام حول مصسر مصر السياسي الذي يبدو مجهولاً.